هل يكون الجمال سلبيًّا؟ وكيف؟ ومتى؟ "يتحدّانا" منصور الهبر، الرسّام الفنّان المثقّف الأكاديميّ والناقد التشكيليّ والباحث في الفنّ، عندما يقذف في عيون وجوهنا عنوان معرضه، "الجمال السلبيّ"، الذي تقيمه له "غاليري آرت أون 56" ابتداء من 23 شباط الجاري إلى 18 آذار المقبل، ومع العنوان مجموعةٌ كثيفةٌ من اللوحات تمعن في اقتراح جمالٍ (سلبيّ) مضادّ للمتعارَف عليه في الجمال وفي الفنّ، ينطبق على الشعر والأدب مطلقًا والفنون جميعها على حدٍّ سواء.
يثير عنوان المعرض إشكاليّةً فنّيّة بالغة الأهمّيّة، لأنّه يضع على طاولة النقاش مفهوم العمل الفنّيّ برمّته، ومغزاه، والغاية منه، من وجهة نظرٍ جماليّة، فكريّة وثقافيّة وفنّيّة، جوهر فحواها إعادة النظر في تحديد الجميل والجمال، والخروج بهذا التحديد من دائرته المحدّدة سلفًا إلى مطارح غير متوقَّعة جماليًّا، وغير منتظرَة، بل "استفزازيّة". أي أنّ الجميل ليس في الضرورة هو الجميل، بل ما يمكن أنْ يصير (على المستوى التشكيليّ) جميلًا الجمالَ الموازي، من خلال طريقة مقاربة هذا الجمال تأليفيًّا وأسلوبيًّا، وفق رؤيةٍ مضادّة.
لقد وصلت رسالة منصور الهبر، في هذا المعنى، بوضوحٍ تامّ، وبجرأة، لكنْ بتمرّسٍ تشكيليٍّ يُشهَد له، وهو تمرّسٌ تأليفيٌّ رؤيويٌّ عارفٌ ومثقّفٌ ومكينٌ، غائصٌ في تاريخ الفنّ، مواكبٌ للجديد وللحديث والمعاصر والراهن فيه، متطلّعٌ على الدوام إلى اختبار طاقات اللّاجمال، والقبيح ربّما، ساعيًا إلى تأليف السطح التشكيليّ الذي يمكّن هذا اللّاجمال، ولِمَ لا هذا القبح، من أنْ يكون جميلًا بالفنّ.
يغدر منصور بالجمال. يلتفّ عليه. يطعنه في قلبه في صدره في ظهره. وقصده من ذلك أنْ يقول لنا إنّ اللوحة، إنّ العمل الفنّيّ يستطيع أن يكون فنّيًّا من دون أن يكون جميلًا. بل يجب على هذا الفنّ أنْ يبحث عن فنّيّته خارج معياريّة الجمال، وأنْ يقدّم براهينه في هذا المجال التي تدحض أحاديّة الجمال، والمنطق الاستبداديّ البطريركيّ الذي قد يكون يؤخذ به في غالبيّة صالات الفنّ والمتاحف ودور العرض والمزادات وسواها.
ثم إن لوحة منصور الهبر لا يهمّها في هذا المعنى أنْ تنطلق من موضوعٍ بالضرورة. ولا من موضوعٍ جميل، تاليًا واستطرادًا. إنّها بالأحرى تؤلّف موضوعها من خلال تأليف السطح وتأليف أحجامه وكولّاجاته وأشكاله وخطوطه وبقعه وألوانه، وضبط حركيّة الأسلبة وتنغيم مكوّناتها وعناصرها. في لوحة الهبر، لا يعود الموضوع مهمًّا، على الرغم من أهمّيّته. المهمّ هو التأليف. أنْ ينجح الفنّان في تأليف السطح، فيجعل هذا التأليف جميلًا، أوركستراليًّا، متناغمًا، متناسقًا، نافرًا، متضادًّا، في الآن نفسه، وهذا كلّه في موازاة الجمال التبسيطيّ المتعارَف عليه؛ جمال المرأة مثلًا، جمال المشهد، جمال العري، جمال الزهرة، إلى آخره.
يمكنني أن أقول، وأنا أرى إلى لوحات الهبر، إنّ معرضه امتحانٌ باهرٌ لـ"الأستذة" الجماليّة المواجِهة لنظريّة الجمال المكرّس والمتَّفَق عليه. إنّه الجمال السلبيّ الذي يخلخل مقاييس الجمال (الجائرة) من خلال ما "يُتَّفَق عليه".
وكما تسأل: كيف يكون الموت جميلًا؟ والألم؟ والوجع؟ والعبث؟ واللّاجدوى؟ والفلسفة؟ والسؤال؟ والتأويل؟ والغموض؟ وأيضًا اللّامعنى؟، يمكنكَ في معرض منصور الهبر، وفي كيفيّة تصوّر لوحاته، وطريقة التأليف بين عناصرها وأحجامها وألوانها، أنْ تجيب: هكذا يكون الجمال السلبيّ جميلًا. وهكذا يصبح هذا كلّه ذا معنى، ويصبح جميلًا بمعنى الجمال السلبيّ.
هذا ما "يرتكبه" فنّ منصور الهبر. وهو "يرتكبه" بامتياز، إلى حدّ يمكنني معه، ومع علامات وظواهر كثيرة غيره، أنْ أشهد أنّ بيروت الفنّيّة لا تزال تفاجئ، وتخرج على المتوقَّع، وتنتصر على بشاعة البشاعة وبشاعة الموت بهذا "الجمال السلبيّ" الكثيف الجمال.
الكاتب والصحافي عقل العويط