ثمة رأسٌ ما، وجهٌ ما، شخصٌ ما، تتصاعد من أعمق أعماق وعيه ومن طبقات لاوعيه الدفينة، "فقاعاتٌ" هي أفكارٌ وتأمّلاتٌ وأحوالٌ وسياحاتٌ وتصعيداتٌ (ولِمَ لا استقالاتٌ واستراحاتٌ وهروباتٌ مريرة) قد تمثّل الخلاصة التشكيليّة والجماليّة والأسلوبيّة التي ينضح بها معرض فادي الشمعة لدى "غاليري جانين ربيز"، ابتداء من العاشر من تشرين الثاني 2022.
مغريةٌ هي الأشكال التي تتّخذها هذه "الفقاعات"، بنًى وألوانًا. مغريةٌ ولذيذةٌ في ظاهرها البصريّ، إذ تقترح "وجبة" من الألوان هي وليمةٌ للعين، في غمرة البشاعات والفظاعات التي تستولي ليس فقط على مشهديّتنا الماثلة للعيان فحسب بل على حياتنا ومصيرنا، وعلى كلّ ما يمكن اكتناهه من احتمالاتٍ سوداويّة وقياميّة. ليس من شكوكٍ أو التباساتٍ حول هذا التأويل. يكفي أنْ نسافر في هذه "الفقاعات"، أنْ "نستقيل" من أحوالنا قليلًا، لنعيش في قلبها، ونتنعّم بلحظاتٍ بصريّةٍ ملأى بالبهجة والغبطة والسيولة.
لكنْ، أيعقل أنْ تكون هذه "الفقاعات" هي "كلّ" ما تشتهيه لنفسها تجربةُ فادي الشمعة التلوينيّة والأسلوبيّة والجماليّة، أم أنّها تعبّر – بسخريةٍ محبّبة وربّما بوجعٍ – عما يعتري وجودنا الفرديّ والجماعيّ من هشاشاتٍ ومن عطوبٍ تجعل عصارات رؤوسنا "تتبخّر" فتصير أشبه ما تكون محض "فقاعاتٍ" تصطدم بالهباء بالخواء وبالعدم؟
أجدني أستسيغ مثل هذا التساؤل الجوهريّ، فأضمّه ضمًّا إشكاليًّا إلى الانطباع الأوّل (أعلاه) الذي يراوغ العين ويغويها، ثمّ يتبادر إلى الذهن والوعي تشكيليًّا، فيتفاعل ويختمر، لينجم عن هذين الانطباع والتساؤل معًا، اختبارٌ جماليّ لا بدّ من الذهاب به إلى أقاصيه اختبارًا وتجريبًا وتمكينًا، بحيث لا يعود الشكل رهين الانفعال الأوّلي، ولا اللون مجرّد غوايةٍ ولذّة وانفعال، بل يتواكب ذلك كلّه مع عمليّةٍ بنيويّةٍ وعقلانيّةٍ تفضي إلى تجربةٍ متقدّمة على المستوى التشكيليّ، فتصير اللوحة فعلًا متكامل الحضور، شكلًا ومبنًى ومعنًى ودلالات.
أعود إلى الرأس الذي يتصاعد منه بخور هذه "الفقاعات" ويغمر سطوح اللوحات بالأريج والأشكال، لأغادر معرض فادي الشمعة محمّلًا مزيجًا من السيولة والغبطة والأسئلة المفتوحة على الإشكاليّات والتحدّيات والمناقشات الخلّاقة.
الكاتب والصحافي عقل العويط