يخطو الرسّام شارل خوري في معرضه الجديد لدى "غاليري مارك هاشم" (ابتداء من 8 تشرين الثاني)، خطوات جسورة إلى الأمام بعد طول بحث وتفتيش واختمار، مطوّرًا تجربته، أشكالًا وألوانًا وإيقاعات، متطلّعًا إلى مستقبلها، من خلال ارتياد مساحاتٍ وفضاءاتٍ اختباريّة، قد تكون على تماسّ مع حالاتٍ من التجريد السورياليّ، لكنْ من دون أنْ يتخلّى عن أطياف الأسلبة في ألوانه وهندسات كائناته الطفوليّة وحيواناته الهيوليّة.
ليس من المستغرب في شيء أنْ يسمّي الفنّان معرضه، "ما وراء الحدود" أو ما بعدها. مَن يعرف أعماله السابقة، في مراحلها كافّةً، يدرك أنّ المعرض هذا، أنّ بعض لوحاته الأساسيّة على الأقلّ، ومنها اللوحة التي تحتلّ بطاقة الدعوة، تستكشف الآفاق وتشقّ الغيوم، بل تجول في حدائق العقل الباطن، في متاهاته، في مياهه، في ألوانه، في هندساته، في أشكاله، في تخييلاته التي لا تتوقّف عند حدّ. أعتقد أنّ ما بعد الحدود، أنّ ما وراءها، هو هذه المنطقة بالذات، منطقة الحلم التي تحتفي بمساحاتٍ سورياليّة - تجريديّة، قد تتّخذ أشكالًا لونيّةً مسطّحة، أو مربّعة، أو مستطيلة، أو منحنية، أو مستديرة، أو مروّسة وناتئة، الجامع بينها هو "فوضاها" الشكلانيّة – اللونيّة المختبريّة، التي تسلس القياد لنفسها، لألوانها وخطوطها وبناها، تعبيرًا عن حرّيّة التجوال في تلك الأمكنة الغامضة المغمورة بالالتباس الشعريّ.
هل يجب، هل من الضروريّ، "عقلنة" كيفيّة اشتغال اللاوعي في لوحة شارل خوري؟ ليس هذا هو المعيار، إذ مَن يستطيع أن يلاحق قصيدةً لشاعرٍ سورياليّ؟ من يستطيع أنْ يفكّك لوحةً تجريديّة بالمعنى الدقيق للتفكيك؟ مَن يستطيع أنْ يرافق تخييلات الطفل، أفراحه، ألفاظه المبعثرة، نبراته، أسفار عينيه، هندساته، والأشكال التي يبنيها، معتبرًا إيّاها العالم الذي يعيش فيه، وينتمي إليه؟
كيف تبدأ لوحة شارل خوري؟ كيف تعمل؟ وكيف تنمو؟ وكيف تنتهي؟ أيجب أنْ يعنينا ماذا هو يقول، وكيف يلقي الضوء على العمليّة التشكيليّة. في كلّ حال، من الممكن أنْ يفضي هذا الباب إلى تأويلٍ "معقول" أو "لامعقول" ما. يعنيني شخصيًّا ما قد أراه على السطح ولا يخضع للمنطق العاري. يعنيني ما أستشعره من مفاتيح وخيوط وضربات وأشكال وأحبار وهلوسات، قد تكون هي الطريق المفضي إلى الأجوبة، إلى احتمالات الأجوبة. ينبغي لي دائمًا أنْ أردّ مسألة "الفهم" إلى الاحتمال فحسب، باعتباره الفضاء الأكثر قربًا إلى مناطق التخييل والحلم. اعتقادي أن لا يقين في لوحة شارل خوري، وإنْ كان للأسلبة أزرارها المعقلنة. اليقين هو المقتل. هو الستار الذي ينسدل على المعنى فيقبض عليه، ويخنقه، ثمّ يتركه جثّة هامدة.
أليس لهذا السبب سمّى شارل خوري معرضه ما وراء الحدود أو ما بعدها؟ واهتداء بهذا العنوان، أدعو شارل خوري إلى أنْ يذهب أبعد وأبعد في اختباراته، وإن كان ينبغي له أن يرسم ويمحو، ثمّ يرسم ويمحو، ليرسم من جديد، إلى أن يطلع الضوء (الآخر) من اللوحة التي تصير هي المحطّة التشكيليّة الفاصلة بين الما قَبل والما بَعد في تجربته الفنّيّة.
في هذا العالم الذي يئنّ تحت الوطأة الوجوديّة المكفهرّة، حيث الأوبئة والأوجاع والأهوال والفجائع والحروب والضحايا، ثمّة في لوحات شارل خوري ما يدعو – بطريقةٍ علنيّة - إلى الفرح، إلى الضوء، إلى اللون، إلى العطر، إلى الغبطة، إلى الترف اللونيّ، إلى الغواية البصريّة، إلى العيد، ولِمَ لا إلى الطفولة، وإلى الهرب. إلى ما وراء الحدود، وإلى ما بعدها. ربّما هناك، ولو لبرهة، قد يعثر المرء على ضالّته، على مأوى، على ملجأ.
خيولٌ مطهّمة هي سطوح لوحات شارل خوري. وإذ أقول الخيول، أقصد البراري البلا حدود، والمساحات، والعوالم، والنسائم، والروائح، والأحلام، والأطعمة، والمذاقات، واللمسات، والألوان، والحواسّ التي يختلط بعضها في بعض، بحيث لا تعود العين "العاقلة" قادرة على ربط الخيوط والعناصر، لرسم مخطّطٍ منهجيٍّ لسيرورة العمل التشكيليّ.
سأظلّ أقول إنّ الفنون والآداب، بل اللغات، هي حدائقنا السرّيّة ما وراء الحدود. وما بعدها. هل نراوح أمكنتنا أم نسرج الخيول المطهّمة إليها، لعلّنا نستلحق بعضًا من أعمارنا الضائعة؟!
الكاتب والصحافي عقل العويط