من موائد الخريف، ومراميه، ومنظوراته، ومناخاته، وحدائقه، وسهوله، وأوراق أشجاره، وتخييلاته، ندخل إلى معرض زميلنا الفنّان والدكتور والناقد محمد شرف في "غاليري إكزود" الأشرفية (30 لوحة، ابتداء من الثالث من تشرين الثاني هذا)، لنسلّمه عيوننا فتكون رهينة لحظات الحنين إلى أماكن واقعيّة - افتراضيّة كان التقاها الرسّام عن كثب، وعايشها، وتفاعل معها، في بطرسبورغ، في الشمال الروسيّ، في إيطاليا، في باريس، ولبنان، معيدًا خلقها بمزيج من مياه الأكواريل الواقعيّة والرومنطيقيّة والغنائيّة التي قد نكون في أشدّ الحاجة إليها في أزمنتنا البائسة.
هو الخريف في أحواله الشتّى، لكنّه خريفٌ تشكيليٌّ. فالتشكيل هو السبيل وهو المرتجى؛ طيّبٌ ولذيذٌ ومتقشّفٌ، لا يبتغي شفقةً ولا وجعًا ولا رثاءً، بل فقط استدخال الحنين، ليكون وليمة عيوننا الموجوعة من جرّاء ما آل إليه الواقع والحاضر، وما يُستحضَر من تشاؤمات المصير. يتعاطى محمّد شرف مع "موضوعه" من خلال مقارباتٍ أكاديميّةٍ، وواقعيّةٍ (خدّاعة)، وحرفيّةٍ مؤسلبةٍ، وبمعرفةٍ فنيّةٍ متبصّرة، لا تضلّ الطريق، ولا تستعرض، ولا تتباهى، بل تنسرب انسرابًا يشبه الحفيف والهمس والهسيس والوشوشة. كأنّما هي تتعاطى مع روح الأمكنة لا مع الأمكنة في ذاتها، تستخلص ما يبقى من المشاهد والمناظر بعد تركها، لترى كيف يكون في مقدور مادّة الأكواريل أنْ تستولدها من جديد، من دون أنْ تمحو مفاتيحها الجغرافيّة، ومعالمها الدلاليّة، ولكنْ أيضًا وفي الآن نفسه من دون أنْ ترضخ لها وتكون أسيرة مكوّناتها. وها هنا، يؤدّي الفنّ دوره، فيستدرج الجغرافيا، والمناخ، والإطار، والسياق، والحالة، ليختبر، ويضيف، ويمزج، ويمحو، ويختزل، وليقدّم في النهاية مقاربته الخاصّة، حاملةً بصمته وتوقيعه.
قد يكون الخريف مؤلمًا، لكن ليست هذه هي غاية المعرض. المعرض لا يريد أنْ يجعلنا موجوعين وخريفيّين على طريقة الرسّامين البكّائين الذين يستشعرون اقتراب لحظات الأفول والزوال والاندثار. المبتغى هو استحضار هذا الخريف، والحنين إليه (فنّيًّا)، ومساءلة أمزجته الشعريّة والفنّيّة والعاطفيّة. لكأنّ الرسّام لا يريد أنْ يقول ذاته وعواطفه، بل أنْ يترك للمشهد المتعدّد والمتنوّع الأمكنة، أنْ يبوح بروحه، مقدّماً إيّاه (هل أقول بحياديّة؟!)، باعتباره حالةً أدبيّة وذهنيّة واسترجاعيّة.

الكاتب والصحافي عقل