تعوّدتُ أنْ أستخدم تعبير "الحثالة" للدلالة على كلّ مَن (وما) هو مبتذلٌ ودنيءٌ وقذرٌ وحقيرٌ ومنحطٌّ وموسّخٌ (واطي)، أكان فردًا أم جماعةً أم حالة. كنت أعرف ما الحثالة معرفةً لغويّة (الرديء من كلّ شيء، ويُطلَق على سَفَلَة الناس مجازًا). وهي معرفةٌ نظريّة، افتراضيّة، رمزيّة، تقريبيّة، ناقصة، مبتورة، وجزئيّة. لكنّ المعرفة لا تكتمل إلّا بالحسّ، بالمعاينة، بالاختبار، والبرهان. في مثل هذه الحال، من شأن هذه المعرفة أنْ ترجّ الحياة رجًّا، وتزلزل الواقع زلزلةً، وتفجّ الدماغ فجًّا، وتدوّي، وتتشظّى. 

كأن تعرف أيّها العزيز اللذيذ مَن قتل لقمان سليم وسمير قصير وجورج حاوي و... حسين مروّة. وهذا فقط على سبيل المثل. آنذاك، تعرف أنّ القاتل هو حثالة. ليس لأنّه قتل فحسب، بل أيضًا وخصوصًا لأنّه قتل هؤلاء. فتعرف ما الحثالة ومَن.

كأنْ تعرف أيضًا يا عزيزي مَن فجّر مرفأ بيروت والعاصمة، وكيف. ومَن سرق أموال المودعين، وجوّع الناس، ويأّسهم، وانتهك الدستور، وانبطح، وسمسر، وعهّر الرئاسة، وأطفأ لبنان. آنذاك، تعرف ما الحثالة ومَن.

علمًا أنّ الحثالة درجات ومراتب. وعلمًا أنّ لكلّ يومٍ حثالته، شخصًا أكان أم جماعةً أم حالة.

ربّما تطلب منّي أيّها العزيز (لتزركني وتحرجني) أنْ أضرب لك مثلًا دامغًا – طازجًا – مرئيًّا ومسموعًا بالصوت والصورة، ومعلومًا باللمس والشمّ والذوق، لا يرقى إليه شكّ، ولا يعتوره التباس. خذه يا عزيزي، خذ المثل الصافع هذا، الجامع المانع، فهو أمامكَ، في القصر، في السرايا، في المجلس، في الباحة، على الطريق، على الشاشات، في الشوارع، في السيّارات، في الباصات، على وسائل التواصل، في اللغة، في الخطاب، في الأهازيج، في التخرّصات، وفي الهلوسات الخلاصيّة القياميّة. 

علمًا أنّ المثل يتجلّى في الآن نفسه في شخصٍ وأشخاص، في مرضٍ ومرضى، في رئاسةٍ ورئاسات، في سلطةٍ وسلطات، في عهدٍ (آفل) وعهود، وفي قطيعٍ وقطعان. وإلى آخره. 

أرجو منكَ يا عزيزي اللذيذ ألّا تحشرني في بيت الياك فتطلب منّي أنْ أرفق قولي هذا (وهو زعمٌ على كلّ حال) بالأسماء والصوَر، لكي تشفي غليلكَ الذي لن تشفيه صورةٌ ولا اسم.

أبعِدْ عنّي يا عزيزي هذه الكأس هذا السمّ، فهو حثالة السمّ. فالحثالة أمامكَ في تلفزيونكَ في بيتكَ في حياتكَ في عيشكَ في وجودكَ في سلطتكَ في رئاستكَ في حكومتكَ في مجلسكَ في حزبكَ وتيّاركَ. وهلمّ.

لكنْ. طوِّل بالكَ أيها العزيز. ورويدًا. وعلى مهلكَ. شوي شوي. لم نصل بعدُ إلى حثالة الحثالة. أي الحثالة مقطّرةً تقطيرًا خالصًا. أقصد: روح الحثالة، جوهرها، نسغها، بيت رحمها، عقلها الباطن، نخاعها الشوكيّ. وهلمّ.

إذ ليس للحثالة، ليس لحثالة الحثالة حدودٌ. فكيف إذا كانت حال الحثالة كحال ثورٍ جريح: سيظلّ يثور، وسيظلّ يجعر، وسيظلّ ينطح، ولن يرعوي، ولن يتورّع، ولن يرتدع، قبل أنْ يركع مهزومًا مكسور القرنَين، بعدما هرسهما هرسًا في حائط عقله المسدود. 

هل مَن يضع حدًّا للحثالة؟ للحثالات؟

 

الكاتب والصحافي عقل العويط